نحن أيضا من بني البشر


ضحى الجواّدي، تقني سامي في التصرف في الموارد البيولوجية و استاذة في علوم الحياة إختصاص بيوتكنولوجيا

 

ليس الذّنب ذنبي أنّني ولدت في الرّيف و ليس الأمر بيدي أننّي نشأت فيه و ترعرعت فأنا لا أراه ذنبـــا و لا عيبا، بل هم من يرونه عيبا و مأساة ، هؤلاء الذين ولدوا وفي أفواههم ملعقة من ذهب و الذين لم يعرفوا معنى للتعب من أجل تحقيق الحلم.

لنترك الأحلام جانبا ، فتحقيق الحلم ليس سهلا ، بالنسبة لنا في هذه المنطقة الرّيفية البسيطة عندما كنت صغيرة، كنت أحلم دائما أن أنجح في دراستي وأن أكون من الأوائل و بذلك أستطيع أن أنفع بلادي بعلمي و معرفتي و أساهم في بناء هذا الوطن الجميل ، كما كنت أتمني أن أزور بلدان العالم وأتعرّف إلى جميع الثقافات و الحضارات.

و كلّما تقدّم الزّمن و مع مرور السّنوات ، أيقنت أنّ حلمي صعب و قد يكاد يكون  مستحيلا ، فبالرّغم من أنّني نجحت في دراستي وكنت من الأوائل، وواجهت الصّعوبات من أجل تحقيق هذا، فإنّني بعد تحصّلي على شهادتي العلمية ، صدمت بالواقع المرير، ففي هذا الوطن لا مكان للكفاءات، بل المكان كلّ المكان لهؤلاء الذين تحدثت عنهم في البداية .

كلّ ذلك لا يهمّني فما كتبه اللّه لي ،أنا راضية به و لا أعترض على مشيئة اللّه ، فأنا أؤمن بالقدر وفي داخلي أمل كبير و الحمد لله ، أنّه سيأتي ذلك اليوم الذي أمارس فيه حقّي كأيّ تونسيّة سواء كانت من المدينة أومن الرّيف .

فالرّيف يا أحبابي، لم يكن يوما بشعا، بل الجمال كلّ الجمال قد خلق هناك: الجبال و الوديان، الهضاب و السّهول، الفراشات و العصافير….

فأنا عشقته و أعشقه و سأظلّ أعشقه إلى آخر يوم في حياتي، وأنا فخورة أننّي من سكّان الرّيف.

فهناك وراء الجبال و حذو الوديان أسّست منازلنا من طين و حجر ، كلّنا عائلة واحدة، حتى وإن اختلفنا وابتعدنا عن بعضنا لبعض الوقت ، فإنّ الأفراح و الأطراح تجمعنا.

أمّهاتنا و آباؤنا يشتغلون في خدمة الأرض، هم فلاّحون بسطاء، البعض منهم درس و لتردّي الأوضاع و لصعوبة الظّروف إختار التوّقف في منتصف الطريق و منهم من توّقف في أوّله. فلم أعرف بينهم من تحصّل على شهادة علميّة ولا تظنّوا أنهم استسلموا بل زرعوا آمالهم فينا من أجل تحقيق ما كانوا يطمحون إليه. وطبعا نحن لم نخذلهم، إلاّ من فقد الأمل، وظنّ أنّه لا جدوى من مواصلة الكفاح.

الطّريق التّي نسلكها يوميّا تفوق الثماني كيلو مترات. كنّا طيلة أيّام الدّراسة ننهض باكرا، لنستعدّ للرّحلة اليومية من مقرّ سكنانا إلي المدرسة التّي توجد بالمدينة مشيا على الأقدام عبر طريق وعرة غير معبّدة. ومع هذا كانت الطّريق رغم طولها قصيرة بالنسبة لنا، نقضيها بين شغـــب و مرح و مداعبة .

للّه ما أجمل تلك الأيّام، فهي لا زالت راسخة في ذهني، ولن تمحى من ذاكرتي أبدا.

قد أطلت عليكم الحكاية و لكنّها لم تنته بعد. المهمّ أنّ أغلبيّة هؤلاء الأطفال قد تحصّلوا على شهائد عليا، فمنهم من حالفه الحظّ واشتغل، و منهم من مازال يخوض معركة البحث عن عمل أو بالأحرى مازال يكمل معركته التي بدأها منذ اليوم الأوّل الذي وطئت فيه قدماه المدرسة. أنا ومن معي ومن سبقني و حتّى من جاؤوا بعدي، قد نكون اجتزنا مرحلة صعبة وهذا لا يعني أنّ الحظ قد حالفنا فالحياة مليئة بالصعوبات وكلّ همنّا اليوم هو أن ينعم الأطفال الذين مازالوا في بداية الطّريق بحال أفضل من الذي عشنا فيه .

فهم مازالوا الآن يخوضون نفس المعركة مع البرد و الأمطار و الثلوج وأشعّة الشمس الحارقة والطريق غير المعبّدة و التعرّض لمخاطر الطبيعة ولعلّ أهمها الحيوانات البريّة المفترسة. ألا ترون أنّ الجهاد لا زال مستمرا في هذه المنطقة وأنّ الأمل لم يتأثّر بعد بصعوبات الحياة و لا زال بريقه يلمع في أعينهم.

فأنا أرى أنّه قد حان الوقت لنمدّ أيدينا لننقذ هذه البراءة من براثن وحش الحياة المفترس. فهؤلاء الأطفال لا يطلبون المستحيل، هم يريدون طريقا معبّدة و ماء صالحا للشراب فقط.

قد ترون أنّ هذا الطلب سخيف يا أبناء المدينة و لكن أبناء الرّيف يرونه حلما إن تحقّق قد تتحقّق معه بقيّة الأحلام.

فنحن نريد هذه الطريق ليس تمهيدا لوسائل النقل، بل لكي تنعم أقدام أطفالنا الصّغار بحذاء جديد يدوم على الأقلّ مدّة شهرين، أمّا الماء الصالح للشراب فنراه ضرورة حياتية لإنقاذ بني البشر، الذين طالما أنهكتهم مياه الغدير و الوديان.

فعذرا يا تونسنا الجميلة إن أرهقنا كاهلك بهذا الطلب و نرجو أن لا يكون من بين الطلبات المشّطة التي تتردّد على مسامعنا كلّ يوم.